الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
قوله تعالى: جعل اللّه القلوب ثلاثة أقسام: قاسية، وذات مرض، ومؤمنة مخبتة؛ وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافًا وإذعانًا، أو لا تكون يابسة جامدة. فالأول: هو القاسي: وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع، ولا يكتب فيه الإيمان، ولا يرتسم فيه العلم؛ لأن ذلك يستدعى محلا لينا قابلا. والثاني: لا يخلو إما أن يكون الحق ثابتًا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه، أو يكون لينه مع ضعف وانحلال. فالثاني هو الذي فيه مرض، والأول هو القوي اللين. وذلك أن القلب بمنزلة أعضاء الجسد ـ كاليد مثلا ـ فإما أن تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش، أو تبطش بعنف، فذلك مثل القلب القاسي، أو تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها، فذلك مثل الذي فيه مرض، أو تكون باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم، فبالرحمة خرج عن القسوة، وبالعلم خرج عن المرض؛ فإن المرض من الشكوك والشبهات. ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والإيمان والإخبات. وفي قوله: وعلى هذا فقوله: وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد، وهو: أن اللّه جعل المحكم مقابل المتشابه تارة، ومقابل المنسوخ أخرى. والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف ـ العام ـ كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام وتقييد المطلق؛ فإن هذا متشابه؛ لأنه يحتمل معنيين، ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه، فإن في ذلك جميعه نسخًا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن؛ ولهذا كانوا يقولون: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم. وعلى هذا فيصح أن يقال: المحكم والمنسوخ، كما يقال: المحكم والمتشابه. وقوله بعد ذلك: ومن الناس من يجعله مقابلاً لما نسخه اللّه مطلقًا، حتى يقول: هذه الآية محكمة ليست منسوخة، ويجعل المنسوخ ليس محكمًا، وإن كان اللّه أنزله أولا اتباعًا لظاهر قوله: فهذه ثلاث معان تقابل المحكم، ينبغي التفطن لها. وجماع ذلك: أن [الإحكام] تارة يكون في التنزيل، فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان. فالمحكم المنزل من عند اللّه أحكمه اللّه أي: فصله من الاشتباه بغيره، وفصل منه ما ليس منه؛ فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشىء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد، فالمنع جزء معناه لا جميع معناه. وتارة يكون [الإحكام] في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع وهو اصطلاحي، أو يقال ـ وهو أشبه بقول السلف ـ: كانوا يسمون كل رفع نسخًا، سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة. وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ، وقد يكون في سمع المبلغ، وقد يكون في فهمه كما قال: وتارة يكون [الإحكام] في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا، فتكون محتملة للمعنيين. قال أحمد بن حنبل: المحكم: الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه: الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا. ولم يقل في المتشابه: لا يعلم تفسيره ومعناه إلا اللّه، وإنما قال: ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره، بل قال: يبين ذلك أن التأويل قد روى أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ كحيى بن أخطب وغيره ـ من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عامًا؛ لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل بعد إسقاط المكرر، وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر. وروى أن من النصارى الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأول [إنا] و[نحن] على أن الآلهة ثلاثة لأن هذا ضمير جمع. وهذا تأويل في الإيمان باللّه، فأولئك تأولوا في اليوم الآخر، وهؤلاء تأولوا في اللّه. ومعلوم أن: [إنا] و [نحن] من المتشابه، فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه، التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى، فصار هذا متشابهًا؛ لأن اللفظ واحد والمعنى متنوع. والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه، وبعض المتواطئة أيضًا من المتشابه، ويسميها أهل التفسير [الوجوه والنظائر]، وصنفوا كتب [الوجوه والنظائر]، فالوجوه في الأسماء المشتركة، والنظائر في الأسماء المتواطئة. وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعًا في الأسماء المشتركة. فهي نظائر باعتبار اللفظ، ووجوه باعتبار المعنى، وليس الأمر على ما قاله، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله. والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل وذلك أن الكلام نوعان: إنشاء فيه الأمر، وإخبار، فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به، كما قال من قال من السلف: إن السنة هي تأويل الأمر. قالت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده:(سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ) يتأول القرآن، تعنى قوله: وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع، ليس تأويله فهم معناه. وقد جاء اسم [التأويل] في القرآن في غير موضع وهذا معناه، قــال اللّه تعالى: وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا اللّه؛ فإن اللّه يقول: وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم، فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن. ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد، وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة، فكل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته. وكان في هذا أيضًا متبعًا للمتشابه؛ إذ الأسماء تشبه الأسماء، والمسميات تشبه المسميات، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها. فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه وقوله: يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه ـ وقتًا وقدرًا ونوعًا وحقيقة ـ إلا اللّه، وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا، وكذلك قوله: وإذا كان التأويل للكتاب كله والمراد به ذلك ارتفعت الشبهة، وصار هذا بمنزلة قوله: وإن كان الضمير عائدًا إلى ما تشابه، كما يقوله كثير من الناس؛ فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه بخلاف الأمر والنهي؛ ولهذا في الآثار: (العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه). لأن المقصود في الخبر الإيمان، وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه بخلاف الأمر والنهي؛ ولهذا قال بعض العلماء: المتشابه: الأمثال والوعد والوعيد، والمحكم: الأمر والنهي، فإنه متميز غير مشتبه بغيره، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع، وأمور نتركها لابد أن نتصورها. ومما جاء من لفظ [التأويل] في القرآن قوله تعالى: فأخبر ـ سبحانه ـ أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون اللّه، وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله: و [نكتة ذلك] أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم، كذهن الإنسان مثلاً،ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم، واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني ثم تتوسط ذلك أو تدل على الحقيقة الخارجة، فالتأويل هو الحقيقة الخارجة، وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية، وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم أن اللّه إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه محكمه ومتشابهه، وإن لم يعلم تأويله. ويبين ذلك أن اللّه يقول عن الكفار: وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات، أقف عند كل آية وأسأله عنها. فهذا ابن عباس حَبْر الأمة، وهو أحد من كان يقول: لا يعلم تأويله إلا اللّه، يجيب مجاهدًا عن كل آية في القرآن. وهذا هو الذي حمل مجاهدًا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله: وأصل ذلك أن لفظ [التأويل] فيه اشتراك بين ما عناه اللّه في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين، فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن. ومجاهد إمـــام التفسير. قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وأما التأويل فشأن آخر. ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب اللّه، ولا قال:هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه. وإنما وضع هذه المسألة ـ المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فلقبوها:(هل يجوز أن يشتمل القرآن على مالا يعلم معناه). وأما (تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم) فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية، وبأن اللّه يمتحن عباده بما شاء، ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه. والغالب على كلا الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه: ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال: (لايجوز أن يتكلم اللّه بكلام ولا يعنى به شيئًا خلافًا للحشوية). وهذا لم يقله مسلم أن اللّه يتكلم بما لا معنى له. وإنما النزاع هل يتلكم بما لا يفهم معناه؟ وبين نفي المعنى عند المتكلم ونفي الفهم عند المخاطب بَوْن عظيم. ثم احتج بما لايجري على أصله فقال: هذا عبث، والعبث على اللّه محال. وعنده أن اللّه لا يقبح منه شىء أصلاً بل يجوز أن يفعل كل شىء، وليس له أن يقول: العبث صفة نقص، فهو منتف عنه؛ لأن النزاع في الحروف وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة، فلا نقل صحيح ولا عقل صريح. ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم: أن مدعى التأويل أخطؤوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه؛ فإن الأولين لعلمهم بالقرآن والسنن وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف وكلام العرب، علموا يقينًا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن؛ فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون الأخبار والأوامر، وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن اللّه وعن اليوم الآخر حتى عن أكثر أحوال الأنبياء ـ وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ويتأولون آيات الصفات. وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان تغلب عليهم السنة، فقد يتأولون أيضًا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه. والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة وأكثر أهل الكلام والبدع،رأوا أيضًا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن، ورأوا عجزًا وعيبًا وقبيحًا أن يخاطب اللّه عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهـم لا يفهمونه، وهـم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل، لكن أخطؤوا في معنى التأويل الذي نفاه اللّه، وفي التأويل الذي أثبتوه. وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل، وصار الآخرون أكثر كلامًا وجدالا ولكن بفرية على اللّه، وقول عليه ما لا يعلمونه، وإلحاد في أسمائه وآياته، فهذا هذا. ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل. فإن (التأويل) في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به. وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف، فإذا قال أحدهم: هذا الحديث أو هذا النص مؤول أو هو محمول على كذا، قال الآخر: هذا نوع تأويل، والتأويل يحتاج إلى دليل، والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر. وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل، أو ذم التأويل، أو قال بعضهم: آيات الصفات لا تؤول. وقال الآخر: بل يجب تأويلها، وقال الثالث: بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ويترك عند المصلحة أو يصلح للعلماء دون غيرهم، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع. وأما [التأويل] في لفظ السلف فله معنيان: أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربًا أو مترادفًا، وهذا - واللّه أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله. ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله كذا وكذا، واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك، ومراده التفسير. و المعنى الثاني ـ في لفظ السلف ـ وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقًا ـ: هو نفس المراد بالكلام؛ فإن الكلام إن كان طلبًا كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبرًا كان تأويله نفس الشىء المخبر به. وبين هذا المعنى والذي قبله بون؛ فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلة. فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها، ويكون (التأويل) من باب الوجود العيني الخارجي. فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكون المستمع قد تصورها أو تصور نظيرها بغير كلام وإخبار، لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما أفهمه المخاطب؛ إما بضرب المثل، وإما بالتقريب، وإما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها، وإما بغير ذلك. وهذا الوضع والعرف الثالث هو لغة القرآن التي نزل بها، وقد قدمنا التبيين في ذلك، ومن ذلك قول يعقوب ـ عليه السلام ـ ليوسف: فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه كما قال يوسف: وقال اللّه تعالى: وقال تعالى في قصة موسى والعالم: ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر [الآل] فإن آل الشخص من يؤول إليه؛ ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم، بحيث يكون المضاف إليه أعظم من المضاف يصلح أن يؤول إليه الآل، كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون، بخلاف الأهل، والأول أفعل؛ لأنهم قالوا في تأنيثه أولى، كما قالوا جمادى الأولى، وفي القصص: ومن الناس من يقول: فوعل، ويقول: أولة، إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل؛ فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف، سمى المتقدم أول ـ واللّه أعلم ـ لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه، فهو أس لما بعده وقاعدة له. والصيغة صيغة تفضيل لا صفة. مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى، لا من باب أحمر وحمراء؛ ولهذا يقولون: جئته من أول أمس، وقال: ولفظ [الأول] مشعر بالرجوع والعود، و[الأوّل] مشعر بالابتداء والمبتدأ، خلاف العائد؛ لأنه إنما كان أولا لما بعده فإنه يقال: [أول المسلمين] و وإذا قلنا: آل فلان، فالعود إلى المضاف؛ لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلا ومرجعًا لغيره؛ لأن كونه مفضلا دل على أنه مآل ومرجع لا آيل راجع؛ إذ لا فضل في كون الشىء راجعًا إلى غيره آيلا إليه، وإنما الفضل في كونه هو الذي يرجع إليه ويؤول إليه. فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلا ومرجعًا، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضى أن يكون هو السابق المبتدئ.واللّه أعلم. فتأويل الكلام ما أوله إليه المتكلم، أو ما يؤول إليه الكلام، أو ما تأوله المتكلم؛ فإن التفعيل يجري على غير فعل، كقوله: فالتأويل: هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه، أو تأول هو إليه. والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول ويؤوَّل إلى حقيقته التي هي عين المقصود به، كما قال بعض السلف في قوله:
وأما إدخال أسماء اللّه وصفاته ـ أو بعض ذلك ـ في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر اللّه بعلم تأويله، كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم ـ فإنهم، وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم، فالكلام على هذا من وجهين: الأول: من قال: إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه، فنقول: أما الدليل على بطلان ذلك: فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة ـ لا أحمد بن حنبل ولا غيره ـ أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه. وجعلوا أسماء اللّه وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن اللّه ينزل كلامًا لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت. ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها،ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك. وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، وفي أحاديث الوعيد مثل قوله:(من غشنا فليس منا) وأحاديث الفضائل، ومقصوده بذلك: أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه، ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر. فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل، وكذلك نص أحمد في كتاب [الرد على الزنادقة والجهمية] أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن، وتكلم أحمد على ذلك المتشابه وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية، وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله. فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه، وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره، بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه، أو إلحاد في أسماء اللّّه وآياته. ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين. و[التأويل المردود] هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، فلو قيل: إن هذا هو التأويل المذكور في الآية، وأنه لا يعلمه إلا اللّه، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلاً يخالف دلالتها، لكن ذلك لا يعلمه إلا اللّه، وليس هذا مذهب السلف والأئمة، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها لا التوقف فيها، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني، لا تحرف ولا يلحد فيها. والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه أن نقول: لا ريب أن اللّه سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل: الرحمن والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرؤوف ونحو ذلك، ووصف نفسه بصفات مثل [سورة الإخلاص] و[آية الكرسي] وأول [الحديد] وآخر [الحشر]، وقوله: فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه: أتقول هذا في جميع ما سمى اللّه ووصف به نفسه أم في البعض؟ فإن قلت: هذا في الجميع كان هذا عنادًا ظاهرًا وجحدًا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح. فإنا نفهم من قوله: وهذا الغلو في الظاهر من جنس غلو القرامطة في الباطن،لكن هذا أيبس وذاك أكفر. ثم يقال لهذا المعاند: فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود وعلى حق موجود أم لا؟ فإن قال: لا، كان معطلاً محضًا، وما أعلم مسلمًا يقول هذا. وإن قال: نعم، قيل له: فلم فهمت منها دلالتها على نفس الرب ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم وكلاهما في الدلالة سواء؟ فلابد أن يقول: نعم؛ لأن ثبوت الصفات محال في العقل؛ لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث بخلاف الذات. فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني ـ كما سنذكره ـ وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض. فيقال له: ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه، فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع؛ لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة بخلاف الآخر، أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر، وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع؟. أما الأول: فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير عليّ عظيم، كدلالته على أنه عليم قدير، ليس بينهما فرق من جهة النص، وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه، مثل ذكره لمشيئته وإرادته. وأما الثاني: فيقال لمن أثبت شيئًا ونفى آخر: لم نفيت مثلاً حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى إرادته؟ فإن قال: لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على اللّه، قيل له: والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على اللّه. فإن قال: إرادته ليست من جنس إرادة خلقه، قيل له: ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه وكذلك محبته. وإن قال - وهو حقيقة قوله -: لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل، وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين؛ لأن الفعل دل على القدرة، والإحكام دل على العلم، والتخصيص دل على الإرادة، قيل له الجواب من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضًا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة. والتقريب والإدناء وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة، وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا. الثاني: يقال له: هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة، والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم، ودلالته أتم، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة، مع أن النصوص لم تفرق؟ فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل. الثالث: يقال له: إذا قال لك الجهمي: الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه أو نفس الفعل والأمر به، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورًا إن قال بقدمها، ومحذورًا إن قال بحدوثها. وهنا اضطربت المعتزلة، فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم، ولا يقولون بتجدد صفة له لامتناع حلول الحوادث عند أكثرهم مع تناقضهم، فصاروا حزبين: البغداديون ـ وهم أشد غلوًا في البدعة في الصفات وفي القدرـ نفوا حقيقة الإرادة. وقال الجاحظ: لا معنى لها إلا عدم الإكراه. وقال الكعبي: لا معنى لها إلا نفس الفعل إذا تعلقت بفعله ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده. والبصريون ـ كأبي على وأبي هاشم ـ قالوا: تحدث إرادة لا في محل، فلا إرادة، فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل،وكلاهما عند العقلاء معلوم الفساد بالبديهة. كان جوابه: أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال، والنص قد دل عليها والعقل أيضًا، فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل جعله مسفسطًا أو مقرمطًا، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي. ثم يقال لخصومه: بم أثبتم أنه عليم قدير؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير. وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع؛ فإن ذلك لا يستلزم حدوثًا ولا تركيبًا مقتضيًا حاجة إلى غيره. ويعارضون أيضًا بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة، ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية والضرورة العقلية والقواطع النقلية واتفاق الأمم وغير ذلك من الدلائل، ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده أو بوجود يعلمون كيفيته، فلابد أن يفروا إلى إثبات ما لا تشبه حقيقته الحقائق. فالقول في سائر ما سمى ووصف به نفسه كالقول في نفسه ـ سبحانه وتعالى. ونكتة هذا الكلام، أن غالب من نفي وأثبت شيئًا مما دل عليه الكتاب والسنة لابد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى وانتفاء المانع، وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى، أو يتوقف إذا لم يكن له عنده مقتض ولا مانع، فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم، كما أنه فيما أثبته قائم، إما من كل وجه أو من وجه يجب به الإثبات، فإن كان المقتضى هناك حقًا فكذلك هنا، وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا. وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودًا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر؛ فإنه إن كان حقًا نفاهما، وإن كان باطلاً لم ينف واحدًا منهما، فعليه أن يسوى بين الأمرين في الإثبات والنفي، ولا سبيل إلى النفي، فتعين الإثبات. فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئًا، وما من أحد إلا ولابد أن يثبت شيئًا أو يجب عليه إثباته، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعى أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة وإن لم يعرف فسادها على التفصيل، وأما من حيث التفصيل فيبين فساد المانع وقيام المقتضى، كما قرر هذا غير مرة. فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض، كالحياة والعلم والقدرة ولم يثبت ما هو فينا أبعاض، كاليد والقدم: هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم. قيل له: وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي، كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي؛ فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضًا أو تسميتها أعراضًا لا يمنع ثبوتها، قيل له: وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبًا وأبعاضًا، أو تسميتها تركيبًا وأبعاضًا لا يمنع ثبوتها. فإن قيل: هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء، قيل لـه: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض. فإن قال: العَرَض ما لا يبقى وصفات الرب باقية،قيل: والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة، وذلك في حق اللّه محال، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق اللّه تعالى مطلقًا، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه. فإن قال: ذلك تجسيم والتجسيم منتف، قيل: وهذا تجسيم والتجسيم منتف. فإن قال: أنا أعقل صفة ليست عرضًا بغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير، قيل له: فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير. فإن نفي عقل هذا نفي عقل ذاك، وإن كان بينهما نوع فرق لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع؛ ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع، لكن ذاك أيضًا مستلزم لنفي الذات، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة، وهذا أيضًا ليس هو معقول النص ولا مدلول العقل، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق. وأصل ذلك: أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة، وهي ألفاظ مجملة مثل: [متحيز] و [محدود] و [جسم] و [مركب] ونحو ذلك، ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة، ومدلولا عليها بنوع قياس، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل. إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص، ومن جهة العقل من ناحية أخرى، فصاروا أحزابًا؛ تارة يغلبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي، فإنه قد قيل: أول ما تكلم في الجسم نفيًا وإثباتًا من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف، فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس، فعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس، واعتقد الأولون إحالة ثبوته، واعتقد هذا إحالة نفيه، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض. فما أعلم أحدًا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة، إلا ولابد أن يتناقض، فيحيل ما أوجب نظيره ويوجب ما أحال نظيره؛ إذ كلامهم من عند غير اللّه، وقد قال اللّه تعالى: والصواب ما عليه أئمة الهدى، وهو أن يوصف اللّه بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين أهل العلم والإيمان. والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يعرض عنها فيكون من باب الذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم يخرون عليها صمًا وعميانًا، ولا يترك تدبر القرآن فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني. فهذا أحد الوجهين، وهو منع أن تكون هذه من المتشابه. الوجه الثاني: أنه إذا قيل: هذه من المتشابه، أو كان فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابهًا، فيقال: الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا اللّه، إما المتشابه، وإما الكتاب كله ـ كما تقدم ـ ونفى علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة، وهذا الوجه قوي، إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران، أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [إنا] و [نحن] ونحو ذلك، ويؤيده أيضًا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابهًا وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى، فإن نفي المشابهة بين اللّّه وبين خلقه أعظم من نفي المشابهة بين موعود الجنة وموجود الدنيا. وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولاً أن نفي علم التأويل ليس نفيًا لعلم المعنى، ونزيده تقريرًا أن اللّه ـ سبحانه ـ يقول: وقال أيضًا: وقال علي ـ رضي اللّه عنه ـ لما قيل له: هل ترك عندكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئًا ؟ فقال: لا، والذي فلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأ النَّسَمَة إِلا فهما يؤتيه اللّه عبدًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة. فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة، والفهم أخص من العلم والحكم، قال اللّه تعالى: وأيضًا، فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن، وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم، مثل عبد اللّه بن مسعود الذي كان يقول: لو أعلم أعلمَ بكتاب اللّه مني تبلغه آباط الإبل لأتيته. وعبد اللّه ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتًا للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين، بل وثالثهما فـي علية التابعين مـن جنسهم أو قريب منهم ومثلهما في جلالته جلالة أصحاب زيد بن ثابت، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به، بل أخذوا عن غيره مثل عمر وابن عمر وابن عباس، ولو كان معاني هذه الآيات منفيًا أو مسكوتًا عنه لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلامًا فيه. ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة، ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية. قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد اللّه بن مسعود وغيرهما؛ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل. وكذلك الأئمة، كانوا إذا سئلوا عن شىء من ذلك لم ينفوا معناه، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية، كقول مالك بن أنس ـ لما سئل عن قوله تعالى: وقد بين أن الاستواء معلوم كما أن سائر ما أخبر به معلوم، ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها، لا يقال: كيف استوى.ولم يقل مالك: الكيف معدوم، وإنما قال: الكيف مجهول. وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة، غير أن أكثرهم يقولون: لا تخطر كيفيته ببال، ولا تجري ماهيته في مقال، ومنهم من يقول: ليس له كيفية ولا ماهية. فإن قيل: معنى قوله: (الاستواء معلوم): أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر اللّه بعلمه. قيل: هذا ضعيف؛ فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية. وأيضًا، فلم يقل: ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار اللّه بالاستواء، وإنما قال: الاستواء معلوم. فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، لم يخبر عن الجملة. وأيضًا، فإنه قال: (والكيف مجهول)، ولو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف اللّه به نفسه، لو قال في قوله: وأيضًا، فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة، يقرون بأن اللّه فوق العرش حقيقة، وأن ذاته فوق ذات العرش، لا ينكرون معنى الاستواء، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية. ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة. قال بعضهم: ارتفع على العرش، علا على العرش. وقال بعضهم عبارات أخرى، وهذه ثابتة عن السلف، قد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخر كتاب: [الرد على الجهمية].وأما التأويلات المحرفة؛ مثل استولى وغير ذلك، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية. وأيضًا، قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات، بل في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة:(يا عائشة، إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سَمَّي اللّهُ فاحذريهم). وهذا عام.وقصة صبيغ بن عَسْل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن، حتى رآه عمر، فسأل عمر عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1]، فقال: ما اسمك؟ قال: عبد اللّه صبيغ، فقال: وأنا عبد اللّه عمر، وضربه الضرب الشديد، وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ. وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:(إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه)، وكما قال تعالى: ومما يبين الفرق بين [المعنى] و[التأويل] أن صبيغاً سأل عمر عن [الذاريات] وليست من الصفات،وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها كره سؤاله لما رآه من قصده، لكن علي كانت رعيته ملتوية عليه لم يكن مطاعا فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه.و [الذاريات] و [الحاملات] و [الجاريات] و [المقسمات] فيها اشتباه لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة،ويحتمل غير ذلك، إذ ليس فى اللفظ ذكر الموصوف، والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها ومتى تهب، وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار،ومتى ينزل المطر، وكذلك فى [الجاريات] و[المقسمات] فهذا لا يعلمه إلا الله. وكذلك في قوله: [إنا] و [نحن] ونحوهما من أسماء اللّه التي فيها معنى الجمع كما اتبعه النصارى؛ فإن معناه معلوم وهو اللّه سبحانه؛ لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني؛ بمنزلة الأسماء المتعددة مثل: العليم، والقدير، والسميع، والبصير، فإن المسمى واحد ومعاني الأسماء متعددة، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع. وأما التأويل الذي اختص اللّه به فحقيقة ذاته وصفاته كما قال مالك.والكيف مجهول. فإذا قالوا: ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره قيل: هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا اللّه. وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله. فإذا قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل). قيل: أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه، واللام هنا للتأويل المعهود، لم يقل: تأويل كل القرآن، فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا اللّه،والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله، وهذا كقوله:
|